سورة الحشر - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحشر)


        


ولما نزع سبحانه أموالهم من أيدي الجيش، بين مصرف غيرها مما كان مثلها بأن فتح له صلى الله عليه وسلم بغير قتال فقال مستأنفاً جواباً لمن كأنه قال: هل يعم هذا الحكم كل فيء يكون بعد بني النضير: {ما أفاء الله} أي الذي اختص بالعزة والحكمة والقدرة {على رسوله} ولما كان سبحانه محيط العلم بأنه يسلط على أهل وادي القرى وغيرهم أعظم من هذا التسليط، قال ليكون علماً من أعلام النبوة: {من أهل القرى} أي قرية بني النضير وغيرها من وادي القرى والصفراء وينبع وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية {فالله} أي الملك الأعلى الذي الأمر كله بيده {وللرسول} لأنه أعظم خلقه، فرتبته تلي رتبته، وهذان يتراءى أنهما قسمان وليس كذلك، هما قسم واحد، ولكنه ذكر سبحانه نفسه المقدس تبركاً، فإن كل أمر لا يبدأ به فهو أجذم، وتعظيماً لرسوله صلى الله عليه وسلم إعلاماً بأنه لا هوى له أصلاً في شيء من الدنيا، وإنما رضاه رضا مولاه، خلقه القرآن الذي هو صفة الله فهو مظهره ومجلاه، وسهمه صلى الله عليه وسلم يصرف بعده لمصالح المسلمين كالسلاح والثغور والعلماء والقضاة والأئمة.
ولما أبان هذا الكلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل والعظمة ما لا يدخل تحت الوصف، أتبعه تعظيماً آخر بتعظيم أقاربه لأجله، ولذلك أعاد العامل فقال: {ولذي القربى} أي منه لأن رتبتهم من بعد رتبته وهم بنو هاشم وبنو المطلب رهط إمامنا الشافعي رضي الله عنه سواء فيه غنيهم وفقيرهم، لأن أخذهم لذلك بالقرابة لا بالحاجة كما هو مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه. ولما ذكر أهل الشرف، أتبعه أهل الضعف جبراً لوهنهم فقال مقدماً أضعفهم: {واليتامى} أي الذين هم أحق الناس بالعطف لأن مبنى الدين على التخلق بأخلاق الله التي من أجلّها تقوية الضعيف وجبر الكسير {والمساكين} فإنهم في الضعف على أثرهم ودخل فيهم الفقراء فإنه إذا انفرد لفظ الفقير أو المساكين دخل كل منهما في الآخر، وإنما يفرق إذا جمع بينهما، وكذا الفيء والغنيمة إذا أفردا جاز أن يدخل كل في الآخر، وإذا جمعا فالفيء ما حصل بغير قتال وإيجاف خيل وركاب، والغنيمة ما حصل بذلك {وابن السبيل} وهم الغرباء لانقطاعهم عن أوطانهم وعشائرهم، وقسمة الفيء على هذه الأصناف كما مضى أن يقسم خمسة أقسام: خمس منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذكر معه من المخلوقين وذكر الله فيهم للتبرك، لأن الأصناف المذكورة هي التي يعبر عنها باسمه سبحانه، والأربعة الأخماس خاصة له صلى الله عليه وسلم ينفق منها نفقة سنة وما فضل عنه أنفقه في مصالح المسلمين السلاح والكراع ونحوه، وما كان له صلى الله عليه وسلم في حياته فهو للمصالح بعد وفاته، كما كان يفعل بعد ما يفضل عن حاجته، قال الشافعي رضي الله عنه في الأم: وما أخذ من مشرك بوجه من الوجوه غير ضيافة من مر بهم من المسلمين فهو على وجهين لا يخرج منهما، كلاهما مبين في كتاب الله تعالى وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي فعله فأحدهما الغنيمة، قال الله تعالى في سورة الأنفال:
{واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال: 41] والوجه الثاني الفيء، وهو مقسوم في كتاب الله في سورة الحشر، قال الله تبارك وتعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم} إلى قوله- {رؤف رحيم} فهذان المالان اللذان خولهما الله من جعلهما له من أهل دينه، وهذه أموال يقوم بها الولاة لا يسعهم تركها. فالغنيمة والفيء تجتمعان في أن فيهما معاً الخمس من جميعهما لمن سماه الله تعالى، ومن سماه الله تعالى في الآيتين معاً سواء مجتمعين غير مفترقين، ثم يفترق الحكم في الأربعة الأخماس بما بين الله عز وجل على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وفي فعله فإنه قسم أربعة أخماس الغنيمة، والغنيمة هي الموجف عليها بالخيل والركاب لمن حضر من غني وفقير، والفيء وهو ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في قرى عرينة التي أفاءها الله عليها أن أربعة أخماسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون المسلمين يضعه رسوله الله صلى الله عليه وسلم حيث أراه الله عز وجل، ثم ذكر حديث عمر رضي الله عنه من رواية مالك بن أوس بن الحدثان رضي الله عنه في خصام علي والعباس رضي الله عنهما، قال الشافعي: فأموال بني النضير التي أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم التي ذكر عمر رضي الله عنه فيها ما بقي منها في يد النبي صلى الله عليه وسلم بعد الخمس وبعد أشياء فرقها النبي صلى الله عليه وسلم منها بين رجال من المهاجرين لم يعط منها أنصارياً إلا رجلين ذكرا فقراً وهذا مبين في موضعه، وفي هذا الحديث دلالة على أن عمر رضي الله عنه إنما حكى أن أبا بكر رضي الله عنه وهو أمضيا ما بقي من هذه الأموال التي كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه ما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به فيها، وأنهما لم يكن لهما مما لم يوجف عليه المسلمون من الفيء ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهما إنما كانا فيه أسوة للمسلمين، وذلك سيرتهما وسيرة من بعدهما، والأمر الذي لم يختلف فيه أحد من أهل العلم عندنا علمته ولم يزل يحفظ من قولهم أنه ليس لأحد ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من صفي الغنيمة ولا من أربعة أخماس ما لم يوجف عليه منها، وقد مضى من كان ينفق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه وغيرهن إن كان معهن، فلم أعلم أحداً من أهل العلم قال لورثتهم تلك النفقة التي كانت لهم، ولا خلاف أن تجعل تلك النفقات حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل فضول غلات تلك الأموال فيما فيه صلاح الإسلام وأهله، قال الشافعي: والجزية من الفيء وسبيلها سبيل جميع ما أخذه مما أوجف من مال مشرك أن يخمس فيكون لمن سمى الله عز وجل الخمس وأربعة أخماسه على ما سأبينه إن شاء الله تعالى، وكذلك كل ما أخذ من مشرك من مال غير إيجاف، وذلك مثل ما أخذ منه إذا اختلف في بلاد المسلمين ومثل ما أخذ منه إذا مات ولا وارث له، وغير ذلك ما أخذ من ماله، وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيء من غير قرى عرينة، وذلك مثل جزية أهل البحرين وهجر وغير ذلك فكان له أربعة أخماسها يمضيها حيث أراد الله عز وجل وأوفى خمسه من جعله الله له- انتهى.
ولما حكم سبحانه هذا الحكم في الفيء المخالف لما كانوا عليه في الجاهلية من اختصاص الأغنياء به، بين علته المظهرة لعظمته سبحانه وحسن تدبيره ورحمته فقال معلقاً بما علق به الجار: {كي لا يكون} أي الفيء الذي سيره الله سبحانه بقوته وما خص به نبيه صلى الله عليه وسلم من قذف الرعب في قلوب أعدائه ومن حقه أن يعطاه الفقراء {دولة} أي شيئاً يتناوله أهل الغنى والشرف على وجه القهر والغلبة إثرة جاهلية- هذا على قراءة الجماعة، وقرأ أبو جعفر وهشام عن ابن عامر بالتأنيث من {كان} التامة و{دولة} بالرفع على أنها فاعل {بين الأغنياء منكم} يتداولونه بينهم فإنهم كانوا يقولون: من عزيز، ومنه قال الحسن: اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً- يريد من غلب منهم أخذه واستأثر به، وقيل: الضم اسم للمتداول كالغرفة اسم لما يغترف، والفتح التداول.
ولما كان التقدير: فافعلوا ما أمرتكم من قسمته لمن أمرت به، عطف عليه قوله: {وما} أي وكل شيء {آتاكم} أي أحضر إليكم وأمكنكم منه {الرسول} أي الكامل في الرسلية من هذا وغيره {فخذوه} أي فتقبلوه تقبل من حازه {وما نهاكم عنه} من جميع الأشياء {فانتهوا} لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يقول ولا يفعل إلا ما أمره به الله ربه، فمن قبل ذلك هانت عليه الأمور كما ورد: «القرآن صعب مستصعب على من تركه ميسر على من طلبه وتبعه» روي أن الآية نزلت في ناس من الأنصار قالوا: لنا من هذه القرى سهمنا.
ولما كان الكف عما ألفته النفوس صعباً، ولا سيما ما كان مع كونه تمتعاً بمال على وجه الرئاسة، رهب من المخالفة فيه بقوله: {واتقوا الله} أي اجعلوا لكم بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاية من عذاب الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة، وعلل ذلك بقوله، معظماً له بإعادة الجلالة مؤكداً لأن فعل المخالف فعل المنكر: {إن الله} أي الذي له وحده الجلال والإكرام على الإطلاق {شديد العقاب *} أي العذاب الواقع بعد الذنب، ومن زعم أن شيئاً مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ، لأن الأنفال نزلت في بدر وهي قبل هذه بمدة.


ولما نزع سبحانه أموال الفيء وما كانت عليه في الجاهلية، وبين مصرف الفيء من القرى، وتهدد في المخالفة في ذلك لصعوبته على النفوس، فكان ذلك جديراً بالتقبل بعد أن أفهم أن أموال بني النضير لمن سلطه عليهم وهو رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان من المعلوم من حاله صلى الله عليه وسلم الإيثار على نفسه والقناعة بما دون الكفاف، بين المصرف فيها بعد كفايته صلى الله عليه وسلم لأن بيان ذلك هو المقصود الأعظم لكونه حاصلاً حاضراً، الموطأ له بأموال أهل القرى، فقال مبدلاً من {لله وللرسول} وما عطف عليهما لأن من أعطى المهاجرين لهجرتهم وتجردهم من أموالهم وديارهم فإنما أعطاهم لوجه الله ووجه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يكون بدلاً من {ذي القربى} لئلا يختص بفقيرهم، أو يكون جواباً لمن كأنه قال: قد سمعنا وأطعنا فلمن يكون ما سلط الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من أموالهم؟ فقيل له: {للفقراء} أي الذي كان الإنسان منهم يعصب الحجر على بطنه من الجوع ويتخذ الحفرة في الشتاء لتقيه البرد، ما له دثار غيرها بعد أن كان له من الأموال ما يسعه ويفضل منه ما يصل به غيره، وإنما وصفهم بالفقر لأنهم كانوا عند نزولها كذلك، ثم خصص بالوصف فقال: {المهاجرين} ولما كانت الهجرة قد تطلق على من هجر أهل الكفر من غير مفارقة الوطن فقال: {الذين أخرجوا} وبناه للمفعول لأن المنكئ الإخراج، لا كونه من مخرج معين {من ديارهم} ولما كان الإخراج هنا مضمناً معنى المنع، واختبر التعبير به إشارة إلى أن المال السترة للإنسان لأنه ظرف له، قال: {وأموالهم}.
ولما كان غلب الدنيا من النقائص، بين أنه إذا كان من الله لم يكن كذلك، وأنه لا يكون قادحاً في الإخلاص، وأن أمر بني النضير إنما يسر تحقيقاً لرجائهم فقال: {يبتغون} أي أخرجوا حال كونهم يطلبون على وجه الاجتهاد. وبين أنه لا يجب عليه شيء لأحد بقوله تعالى: {فضلاً من الله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له لأنه المختص بجميع صفات الكمال من الدنيا والدين والآخرة فيغنيهم بفضله عمن سواه {ورضواناً} يوفقهم لما يرضيه عنهم ولا يجعل رغبتهم في العوض منه قادحاً في الإخلاص فيوصلهم إلى دار كرامته.
ولما وصفهم بتعليق بواطنهم به سبحانه وقطعها بالرضا بالإخراج عمن أو عما سواه، وصفهم ببذل ظواهرهم له فقال: {وينصرون} أي على سبيل التجديد في كل وقت والاستمرار {الله} أي الملك الأعظم المجيد {ورسوله} الذي عظمته من عظمته بأنفسهم وأموالهم ليضمحل حزب الشيطان. ولما بان ما له بهم سبحانه من العناية ترقب السامع من مدحهم ما يليق بهذا الإحبار.
فقال مستأنفاً ما هو كالعلة لتخصيصهم: {أولئك} أي العالو الرتبة في الأخلاق الفاضلة {هم} أي خاصة لا غيرهم {الصادقون} العريقون في هذا الوصف لأن مهاجرتهم لما ذكر وتركهم لما وصف دل على كمال صدقهم فيما ادعوه من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم حيث نابذوا من عاداهما وهو القريب الصافي نسباً وداراً وأولوا أولياءهما من كانوا وإن بعدت دارهم وشط مزارهم، وهذا يدل على أن مبنى الدين على إقامة البينات بالثبات عن الابتلاءات على أن العون قد يأتي على قدر البلاء لأن الله تعالى قد خص المهاجرين مما أذن فيه من أموال بني النضير.
ولما مدح المهاجرين وأعطاهم فطابت نفوس الأنصار بذلك وكانوا في كل حال معه صلى الله عليه وسلم كالميت بين يدي الغاسل، مهما شاء فعل، ومهما أراد منهم صار إليه ووصل، أتبعه مدحهم جبراً لهم وشكراً لصنيعهم فقال عاطفاً على مجموع القصة: {والذين تبوؤ} أي جعلوا بغاية جهدهم {الدار} الكاملة في الدور وهي التي أعدها الله في الأزل للهجرة وهيأها للنصرة وجعلها دائرة على جميع البلدان محيطة بها غالبة عليها محل إقامتهم وملابستهم وصحبتهم وملازمتهم لكونها أهلاً لأن يعود إليها من خرج منها فلا يهجرها أصلاً، فهي محل مناه وليست موضعاً يهاجر منه لبركتها أو خيرها.
ولما كان المراد الإبلاغ في مدحهم، قال مضمناً {تبوؤا} معنى لازم: {والإيمان} أي ولابسوه وصحبوه وخصوه بالصحبة ولزموه لزوماً هو كلزوم المنزل الذي لا غنى لنازله عنه، ويجوز أن يكون الإيمان وصفاً للدار بإعادة العاطف للإشارة إلى التمكن في كل من الوصفين فيكون كأنه قيل: تبوؤا المدينة التي هي الدار وهي الإيمان لأنها محل تمكن الإيمان وانتشاره وظهوره في سائر البلدان فلشدة ملابستها له سميت به، ويجوز أن يكون المعنى: ومحل الإيمان إشارة إلى أنهم ما أقاموا بها لأجل أن أموالهم بها بل محبة في الإيمان علماً منهم بأنه لا يتم بدره، ويكمل شرفه وقدره، وتنشر أعلامه ويقوى ذكره إلا بها، ولولا ذلك لهجروها وهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أي مكان حله، فهو مدح لهم بأنه متصفون بالهجرة بالقوة مع اتصافهم بالنصرة بالفعل.
ولما كان انفرادهم بإقامة الإيمان في الدار المذكورة قبل قدوم المهاجرين عليهم مدحاً تاماً، قال مادحاً لهم بذلك دالاً بإثبات الجارّ على أنهم لم يستغرقوا زمان القبل من حين إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمرين: {من قبلهم} أي قبل هجرة المهاجرين لأن وصفهم بالهجرة لم يكن إلا بعد إيجادها فالأنصار جمعوا التمكن في الإيمان إلى التمكن في الدار من قبل أن يجمع المهاجرون بينهما بالهجرة.
ولما ابتدأ ذكرهم هذا الابتداء الجليل، أخبر عنهم بقوله: {يحبون} أي على سبيل التجديد والاستمرار، وقيل العطف على المهاجرين، وهذه حال فيكون هذا حكماً بالمشاركة {من هاجر} وزادهم محبة فيهم وعطفاً عليهم بقوله: {إليهم} لأن القصد إلى الإنسان يوجب حقه عليه لأنه لولا كمال محبته له ما خصه بالقصد إليه، والدليل الشهودي على ما أخبر الله عنهم به من المحبة أنهم شاطروا المهاجرين في أموالهم وعرضوا عليهم أن يشاطروهم نساءهم على شدة غيرتهم، فأبى المهاجرون المشاطرة في النساء وقبلوا منهم الأموال.
ولما أخبرهم بالمحبة ورغبهم في إدامتها، عطف على هذا الخبر ما هو من ثمراته فقال: {ولا يجدون} أي أصلاً {في صدورهم} التي هي مساكن قلوبهم فتصدر منها أوامر القلوب فضلاً عن أن تنطق ألسنتهم. ولما كان المراد نفي الطلب منهم لما خص به المهاجري، وكان الحامل على طلب ذلك الحاجة، وكان كل أحد يكره أن ينسب إلى الحاجة وإن أخبر بها عن نفسه في وقت ما لغرض قال: {حاجة} موقعاً اسم السبب على المسبب {مما أوتوا} أي المهاجرون من الفيء وغيره من أموال بني النضير وغيرهم من أي مؤت كان فكيف إذا كان المؤتي هو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يجدوا حاجة تدعوهم إلى الطلب فلأن لا يجدوا حسداً ولا غيظاً من باب الأولى، فهذه الآية من أعظم حاث على حسن الإخاء محذر من الحسد والاستياء. ولما أخبر عن تخليهم عن الرذائل أتبعه الإخبار بتحليهم بالفضائل فقال: {ويؤثرون} عظم ذلك بقصر الفعل فصار المعنى: يوقعون الأثرة وهي اختيار الأشياء الحسنة لغيرهم تخصيصاً لهم بها لا على أحبائهم مثلاً بل {على أنفسهم} فيبذلون لغيرهم {كائناً} من كان ما في أيديهم، وذكر النفس دليل على أنهم في غاية النزاهة من الرذائل لأن النفس إذا ظهرت كان القلب أطهر، وأكد ذلك بقوله: {ولو كان} أي كوناً هو في غاية المكنة {بهم} أي خاصة لا بالمؤثر {خصاصة} أي فقر وخلل في الأحوال وحاجة شديدة تحيط بهم من كل جانب، من خصائص البناء وهي فرجه.
ولما كان التقدير: فمن كان كذلك فهو من الصادقين: عطف عليه قوله: {ومن} ولما كان المقصود النزاهة عن الرذيلة من أي جهة كانت، وكان علاج الرذائل صعباً جداً، لا يطيقه الإنسان إلا بمعونة من الله شديدة، بنى للمفعول قوله: {يوق شح نفسه} أي يحصل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس، وقاية تحول بينه وبينها، فلا يكون مانعاً لما عنده، حريصاً على ما عند غيره حسداً، قال ابن عمر رضي الله عنه: الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له، قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم».
ولما كان النظر إلى التطهير من سفساف الأخلاق عظيماً، سبب عنه إفهاماً لأنه لا يحصل ما سببه عنه بدونه قوله: {فأولئك}: أي العالو المنزلة {هم} أي خاصة لا غيرهم {المفلحون} أي الكاملون في الفوز بكل مراد، قال القشيري: وتجرد القلب من الأعراض والأملاك صفة السادة والأكابر، ومن أسرته الأخطار وبقي في شح نفسه فهو في مصارفة معاملته ومطالبة الناس في استيفاء حظه، فليس له من مذاقات هذه الطريقة شيء.
وشرح الآية أن الأنصار كانوا لما قدم عليهم المهاجرون قسموا دورهم وأموالهم بينهم وبينهم، فلما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير خطب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ما صنعوا بالمهاجرين من إنزالهم إياهم وأثرتهم على أنفسهم، ثم قال «إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله عليّ من بني النضير»، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطتيهم وخرجوا من دياركم، فقال السعدان رضي الله عنهما: بل يقسم بين المهاجرين خاصة ويكونون في دورنا كما كانوا، وقالت الأنصار: رضينا وسلمنا، وفي رواية أنهم قالوا: اقسم فيها هذه خاصة واقسم لهم من أموالنا ما شئت، فنزلت {ويؤثرون على أنفسهم} الآية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: جزاكم الله خيراً يا معشر الأنصار»، فوالله ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال العنزي:
جزى الله عنا جعفراً حين أزلقت *** بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبوا أن يملونا ولو أنا أمنا *** تلاقي الذي يلقون منا لملت
فهم لعمري الحقيقون باسم إخوان الصفاء، وخلان المروءة والوفاء، والكرامة والاصطفاء، ورضي الله عنهم وعن تابعيهم من الكرام الخلفاء والسادة والحنفاء.


ولما أثنى الله سبحانه وتعالى على المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم بما هم أهله، التابعين لهم بإحسان ما يوجب لهم الثناء فقال عاطفاً على المهاجرين فيقتضي التشريك معهم، أو على أصل القصة من عطف الجمل: {والذين جاؤوا} أي من أي طائفة كانوا، ولما كان المراد المجيء ولو في زمن يسير، أثبت الجار فقال: {من بعدهم} أي بعد المهاجرين والأنصار وهم من آمن بعد انقطاع الهجرة بالفتح وبعد إيمان الأنصار الذين أسلموا بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، ثم ذكر الخبر أو الحال على نحو ما مضى في الذي قبله فقال تعالى: {يقولون} أي على سبيل التجديد والاستمرار تصديقاً لإيمانهم بدعائهم لمن سنه لهم: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا بإيجاد من مهد الدين قبلنا. ولما كان الإنسان وإن اجتهد موضعاً للنقصان قال ملقناً لنا: {اغفر} أي أوقع الستر على النقائص أعيانها وآثارها {لنا} ولما بدؤوا بأنفسهم، ثنوا بمن كان السبب في إيمانهم فقالوا: {ولإخواننا} أي في الدين فإنه أعظم أخوة، وبينوا العلة بقولهم: {الذين سبقونا بالإيمان} ولما لقنهم سبحانه حسن الخلافة لمن مهد لهم ما هم فيه، أتبعه تلقين ما يعاشرون به أعضادهم الذين هم معهم على وجه يعم من قبلهم، فقال معلماً بأن الأمر كله بيده حثاً على الالتجاء إليه من أخطار النفس التي هي أعدى الأعداء: {ولا تجعل} وأفهم قوله: {في قلوبنا} أن رذائل النفس قل أن تنفك وأنها إن كانت مع صحة القلب أوشك أن لا تؤثر {غلاًّ} أي ضغناً وحسداً وحقداً وهو حرارة وغليان يوجب الانتقام {للذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان وإن كانوا في أدنى درجاته.
ولما كان هذا دعاء جامعاً للخير، لقنهم ما يجيبهم في لزومه والتخلق به مع ما فيه من التملق للإله والتعريض له بقوة الرجاء فقال: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا بتعليم ما لمن نكن نعلم، وأكدوا إعلاماً بأنهم يعتقدون ما يقولونه وإن ظهر من أفعالهم ما يقدح في اعتقادهم ولو في بعض الأوقات فقالوا: {إنك رؤوف} أي راحم أشد الرحمة لمن كانت له بك وصلة بفعل من أفعال الخير {رحيم} مكرم غاية الإكرام لمن أردته ولو لم يكن له وصلة، فأنت جدير بأن تجيبنا لأنا بين أن يكون لنا وصلة فنكون من أهل الرأفة، أو لا فنكون من أهل الرحمة، فقد أفادت هذه الآية أن من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة رضي الله عنهم فليس ممن عنى الله بهذه الآية.

1 | 2 | 3 | 4